الصحافة الاستقصائيّة ليست الأهمّ لكنّها الأخطر | حوار مع روان الضامن

روان الضامن

 

* ليس هناك رواية بصريّة وسمعيّة فلسطينيّة قويّة.  

* مهمّتنا تمكين الصحافيّين والصحافيّات من إنتاج قصص محلّيّة بمستوى عالميّ.

* علينا استعادة ما خسرناه في الإعلام العربيّ.

* ليست الصحافة الاستقصائيّة أهمّ أنواع الصحافة، لكنّها الأخطر.

 

وُلِدَت المديرة التنفيذيّة لـ «شبكة أريج» والمخرجة الفلسطينيّة روان الضامن عام 1979، وكانت قد حصلت على بكالوريوس في «الإعلام التلفزيونيّ والإذاعيّ» من «جامعة بير زيت»، والماجستير في الإعلام من جامعة «ليدز البريطانيّة».

صنعت الضامن العديد من الأفلام الوثائقيّة المرجعيّة في القضيّة الفلسطينيّة، مثل فيلميّ «النكبة» (2008) و«أصحاب البلاد» (2009) الّذي يتناول واقع حياة الفلسطينيّين في الأراضي المحتلّة منذ عام 1948، إضافة إلى أفلام استقصائيّة أخرى مثل «ثمن أوسلو» (2012) وأخرى أرشيفيّة وثائقيّة مثل «السلام المرّ» (2009).

يعود اهتمام الضامن إلى التوثيق والذاكرة قديمًا إلى المرحلة الإعداديّة من دراستها حيث شرعت برفقة أختها في مشروع توثيق ذاكرة الأطفال الفلسطينيّين عن النكبة، لتطوّر هذا الاهتمام لاحقًا إلى مسيرة مهنيّة حصلت خلالها على العديد من الجوائز العربيّة والعالميّة.

في هذا الحوار الّذي تجريه فُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة مع الضامن، نتحدّث معها عن أهمّيّة السرد الجمعيّ من خلال الفيلم الوثائقيّ، وأهمّيّة الصحافة الاستقصائيّة عربيًّا وواقعها، والرواية الفلسطينيّة عربيًّا وعالميًّا.

 

فُسْحَة: يبدو أنّ لديك هوسًا قديمًا، أو اهتمامًا، بالتوثيق؛ فقد أنجزت برفقة أختك كتابين عن الذاكرة الشفهيّة الفلسطينيّة تحت عنوان «أطفال فلسطين... أيّام زمان» و«التهجير في ذاكرة الطفولة». كيف تطوّر هذا الاهتمام ليكون أساسًا لمسيرة مهنيّة مكثّفة في التوثيق؟

روان: في البداية كان شعورًا بالغيرة من والدتنا، كانت أمّي كاتبة، ومرّة قلنا لها إنّنا نريد أن نكتب كتابًا أيضًا مثلما يفعل الكبار الّذين يكتبون كتبًا للصغار وللكبار، فسألتنا ماذا نريد أن نفعل، فقلنا نريد أن نقابل الناس، فبدأنا بجدّتي الّتي حدّثتنا عن الأغاني والألعاب والمدارس وأشياء أخرى تتعلّق بحياة الأطفال الفلسطينيّين قبل النكبة. كنّا قد نشرنا الكتاب الأوّل قبل أن نعرف أنّ ثمّة ما يُسمّى بـ ’التاريخ الشفويّ‘، وفي حين كان الجميع يوثّقون ما يتذكّره الكبار الّذين كانوا بالغين في زمن النكبة، استهدفنا مقابلة الناس الّذين تراوحت أعمارهن بين 8 – 16 عامًا في زمن النكبة، أي يمكن وصفه بـ ذاكرة الأطفال عن النكبة.

 

فُسْحَة: ذكرتِ من قبل أنّ فيلم «السلام المرّ» (2009) هو أحبّ أعمالك بالنسبة إليك، لماذا ذلك؟

روان: لأنّه اعتمد حصرًا على الأرشيف، دون أيّ مقابلات أو تصوير، أو أيّ شيء آخر، كان فيلمًا قد صُنِعَ من داخل المكتب، على العكس من وثائقيّ «النكبة» (2008) الّذي استند إلى العديد من المقابلات والتصوير الخارجيّ في فلسطين وأوروبّا وغيرها من الأماكن. قيل لي إنّ الوثائقيّ لا يمكن أن ينجح إذا اعتمد على الأرشيف حصرًا، وكان ذلك تحدّيًّا سَعِدْتُ بقبوله وقد نجحت فيه. يمكن لمَنْ يتساءل عن إمكانيّات روان في السرد الوثائقيّ أن ينظر إلى «السلام المرّ» ليعرف ذلك، رغم أنّه ليس أحبّ الأعمال إلى الناس، لكنّه أحبّها إليّ.

 

فُسْحَة: في «السلام المرّ» و«النكبة» وكذلك «أصحاب البلاد» وفي معظم أعمالك الوثائقيّة تصرّين على أن تسردي القصّة بصوتك الخاصّ؛ لماذا ذلك؟

روان: كان فيلم «الطريق إلى 25 يناير» (2011) العمل الوحيد الّذي لم يظهر فيه صوتي الشخصيّ، لأنّني أردته أن يكون مصريًّا تمامًا، لكنّني أصرّ على سرد القصص بنفسي لأنّها قصصي، ولأنّني جزء منها، ولأنّ الصوت يمثّل روح الشخصيّة وروح العمل، رغم أنّ البعض لا يحبّ صوتي، يعتقدون أنّه طفوليّ على أن يسرد قصّة كقصّة النكبة أو أصحاب البلاد، لكن لا يمكن أن أقبل أن يسرد القصّة صوت آخر غير صوتي.

 

فُسْحَة: ما الّذي يحدّد طريقة السرد الوثائقيّ، لماذا تختفي المقابلات مثلًا من «السلام المرّ» بينما تظهر بكثافة في «النكبة»؟

روان: ذلك يعتمد على القصّة نفسها؛ مثلًا، الشخصيّات الرئيسيّة الّتي صنعت «السلام المرّ» قد ماتت جميعها الآن، وكان تحدّيًّا أن أتمكّن من صياغة القصّة وروايتها من خلال الأرشيف فقط، في حين كنت مصرّة على أن يروي «أصحاب البلاد»، أي فلسطينيّو الأراضي المحتلّة عام 1948، أن يرووا قصّتهم بأنفسهم، ولخمس ساعات تمكّنوا من فعل ذلك. بينما كان «ثمن أوسلو» (2012) مختلف تمامًا، فهو تحقيق استقصائيّ أكثر من كونه فيلم وثائقيّ، في حين أنّ «النكبة» عمل موسوعيّ أكثر من كونه وثائقيّ. كلّ عمل فيهم مشروع مستقلّ بحدّ ذاته، لكنّهم جميعًا ضمن مشروع واحد هو رواية القصّة الفلسطينيّة، وهو ما كان ولا يزال هوسي الشخصيّ.

 

 

فُسْحَة: لماذا من المهمّ بالنسبة إليك توثيق الرواية الجمعيّة؟

روان: لأنّه ليس هناك موادّ سمعيّة وبصريّة تروي الرواية الفلسطينيّة بصوت وسرديّة فلسطينيّتان؛ أن نروي القصّة بعيدًا عن الصوت الأجنبيّ، وبعيدًا عن الصوت الحزبيّ أيضًا. لقد أردت دائمًا أن أصنع شيئًا مفيدًا في إطار رواية القصّة الفلسطينيّة، مثل فيلم «النكبة» أو «أصحاب البلاد».

 

فُسْحَة: هل تعتقدين أنّ ثمّة سرديّات أخرى في المنطقة، إلى جانب السرديّة الفلسطينيّة، يمكن وصفها بالمقموعة والمظلومة عربيًّا وعالميًّا، وما الّذي يجعل من سرديّة مفضّلة على أخرى، أو من سرديّة جمعيّة، أو أقلّيّاتيّة، مقموعة؟

روان: حتّى الرواية الجمعيّة للأغلبيّة، إن قلت مثلًا أريد رواية السرديّة المصريّة الجمعيّة أو الأردنيّة، حتّى هذه السرديّات لا تحظى بمَنْ يصنعها. هل ثمّة وثائقيّ يسرد تاريخ العرب من وجهة نظر جمعيّة عربيّة مثلًا؟ كلّا، إذن؛ فالقضيّة ليست قضيّة أقلّيّات، بل هي انعدام الاهتمام بالوثائقيّات الّتي تحكي القصّة كاملةً؛ لأنّ هذا النوع من السرد يتطلّب مهارة مختلفة تمامًا عن صناعة وثائقيّ شخصيّ أو وثائقيّ سيرة ذاتيّة. أن تسرد رواية فلسطين منذ عام 1799 مثلًا وحتّى اليوم، مشروع يتطلّب لا مهارة صانع الأفلام فحسب، بل مهارة الباحث والالتزام بمشروع فكريّ طويل الأمد. لهذا تجد الغالبيّة تبتعد عن الأرشيف وتفضّل المشاهد الفنّيّة والتصوير على الرواية الأرشيفيّة. كان مدهشًا بالنسبة لي حين بدأت العمل على «النكبة» في الثامنة والعشرين من عمري، غياب أيّ أعمال وثائقيّة توثّق هذه المرحلة الزمنيّة. ثمّة العديد من الأفلام الرائعة عن فلسطين، لكن لماذا لم يتصدّى أحد للنكبة، لروايتها وتوثيقها، بوصفها حدث مستمرّ؟ لأنّ الغالبيّة العظمى من صنّاع وصانعات الوثائقيّات لا يفكّرون في هذا الاتّجاه.

 

فُسْحَة: ما الّذي يميّز «النكبة» عن وثائقيّ «حكاية ثورة»؟

روان: ثمّة اختلاف، «حكاية ثورة» كان ناجحًا جدًّا، لكنّ الاختلاف كان تفضيلي الذهاب نحو الأرشيف الرخيص وليس مرتفع الثمن؛ فثمّة أرشيف الدقيقة منه بـ 1000 دولار، وثمّة الساعة بـ 1000 دولار، كأيّ سلعة أخرى، وقد فضّلت وأردت صناعة وثائقيّ بتكلفة منخفضة، وأن يكون ذلك ممكنًا.

 

فُسْحَة: هل فترة الثورة الفلسطينيّة بداية من عمّان وبيروت وتلك المرحلة بأكملها، هي فترة أردت العمل عليها؟

روان: كلّا، أوّلًا لوجود أعمال كثيرة تناولتها ووثّقتها، وثانيًا لأنّني لست خبيرة في تلك المرحلة؛ ستحتاج إلى شخصيّة دائمًا هي جزء من الحدث نفسها، ومن المرحلة، أو أن تكون بطريقة أو بأخرى جزءًا من القصّة الّتي تريد روايتها.

 

فُسْحَة: حصلت أعمالك الوثائقيّة على العديد من الجوائز التقديريّة، كما عملت على تأسيس جوائز أخرى مثل «جائزة الشارقة للاتّصال الحكوميّ»، إضافة إلى «جائزة فلسطين للإبداع الإعلاميّ». ما أهمّيّة الجائزة للصحافيّ أو صانع الأفلام الوثائقيّة؟ وهل يمكن التفكير في طريقة أو طرق أخرى للمكافأة والدعم والاعتراف خارج إطار فكرة الجائزة الأقرب إلى النموذج الرأسماليّ، بحيث يمكن التفكير في طرق مكافأة ودعم أكثر عدالة من الجائزة التقديريّة الممنوحة للأفراد؟  

روان: الأهمّيّة الأكبر لأيّ جائزة أن تضيء على العمل الفائز، فمعظم الجوائز لا تنطوي على قيمة مادّيّة كبيرة. أمّا في ما يتعلّق بأشياء أخرى بديلة عن الجائزة، ذلك ممكن، ثمّة تدريبات جماعيّة ومنح وغيرها من الأمور، لكنّ الجائزة بإمكانها أن تكون تحفيزيّة أيضًا؛ فمثلًا سيحرص الصحافيّون والصحافيّات على إنجاز أعمالهم/ هنّ قبل موعد أيّ جائزة من جوائز أريج، وثمّة شعور جميل في الحصول على الجائزة بعد شهور من العمل المرهق، لأنّ العمل الصحفيّ الاستقصائيّ يتطلّب جلدًا وصبرًا، والجائزة هنا تكون بمثابة شكر واعتراف من الزملاء والزميلات العاملين في المجال نفسه.

 

 

فُسْحَة: تحدّثت من قبل عن نقص الاهتمام بالصحافة الاستقصائيّة عربيًّا، ما السبب وراء ذلك؟

روان: السبب أنّ التحقيق الاستقصائيّ يتطلّب دعمًا مؤسّساتيًّا، إضافة إلى المهارات الشخصيّة، لكنّ ثمّة حاجة للدعم الأمنيّ والقانونيّ وأن يكون هناك مؤسّسة قادرة على توفير الحماية للصحافيّين. العديد من المؤسّسات الإعلاميّة تجد هذه العمليّة طويلة ومرهقة، إضافة إلى أنّ التحقيقات الاستقصائيّة تستهدف كشف الفساد ما يعني مخاطرة عالية بالنفس وبالمؤسّسة نفسها. ليست الصحافة الاستقصائيّة أهمّ أنواع الصحافة، لكنّها الأخطر.

 

فُسْحَة: ألا يمكن الافتراض أنّ البنية المؤسّساتيّة الهرميّة الأبويّة للمؤسّسات الإعلاميّة التقليديّة، أو حتّى بعض المؤسّسات الإعلاميّة المستقلّة، هي من الأسباب المؤثّرة في غياب الصحافة الاستقصائيّة؛ فتلك البنية لا يمكن أن تنتج شخصيّات تتّبع مبدأ المساءلة والتشكيك اللازم في الصحافة الاستقصائيّة؟

روان: ذلك ممكن بالطبع، إضافة إلى كون هذه الهرميّة تجعل من الصعب نقاش مثل هذه المواضيع، وذلك بسبب مَنْ هم على رأس الهرم؛ هل هم مرتبطون برجال الأعمال وبالسياسيّين؟ ثمّة مؤسّسات مثل «نيويورك تايمز» هرميّة البناء أيضًا لكنّها ليست أبويّة، وليست على صلة مصلحيّة عضويّة بالنظام، وذلك ما يجعل ممكنًا إجراء تحقيقات استقصائيّة. المشكلة لدينا هي الزواج الكاثوليكيّ بين رجال الأعمال والسياسة، الزواج الّذي يجعل من التحقيق غير ممكن، وكذلك النشر، فمثلًا في «أريج» عادة ما نعمل على تمكين الصحافيّين من النشر بأسماء مستعارة.

 

فُسْحَة: كيف تساهم «أريج» في تعميق أساسات الصحافة الاستقصائيّة عربيًّا؟

روان: «أريج» مؤسّسة تدريب؛ النموذج لدينا هو تدريب الصحافيّين والصحافيّات من خلال العمل وتمكينهم من إنتاج تحقيقات استقصائيّة مختلفة، بناءً على هذا التدريب نساعد الصحافيّ أو الصحافيّة بداية من الفكرة وصولًا إلى جمع المعلومات والمقابلات وطريقة السرد وانتهاءً بالنشر من خلال التشبيك بين الصحافيّين والصحافيّات ومنصّات النشر. فمثلًا، اشتغلنا قبل فترة على ملفّ ’عظام الرقبة‘ في فلسطين، الّذي استهدف إجراء تحقيق استقصائيّ يتناول واقع الترقيات والتعيينات في السلك الدبلوماسيّ الرسميّ الفلسطينيّ بناءً على صلة القرابة، وقد جمعنا المعلومات من خلال الصحف والإعلام، ونشرنا في 16 منصّة إعلاميّة بشكل متزامن وبأسماء مستعارة خوفًا على الصحافيّين والصحافيّات، وذلك لأنّه سيكون من الصعب الضغط على 16 مؤسّسة إعلاميّة في الوقت نفسه للكشف عن الأسماء الحقيقيّة.

ثمّة نموذج عمل ثلاثيّ في «أريج»، يتألّف من تدريب ودعم الصحافيّين والصحافيّات، ومن ثمّ دعم وتدريب مدقّقي المعلومات، وأخيرًا أنشأنا منصّة اسمها «عين أريج»، لتشجيع مطلقي الصفّارة (whistle Blowers) على تسريب المعلومات؛ فمثلًا لو كان هناك فيديو لمعلّم يضرب تلاميذًا في مدرسة ما، سيصل الفيديو إلينا ولن نعرف مَنْ أرسله، وسنحوّل الفيديو إلى أحد الصحافيّين أو الصحافيّات لإجراء تحقيق استقصائيّ. إنّ مهمّتنا هي رفع مستوى الصحافيّين والصحافيّات ومدقّقي المعلومات العرب لينتجوا قصصًا محلّيّة بمستوى عالميّ.

 

فُسْحَة: كنت قد ذكرت من قبل أنّ على المؤسّسات الإعلاميّة العربيّة الاستعداد لشكل جديد من الإعلام الرقميّ، هل تعتقدين أنّ الصحافة التقليديّة قد تنقرض في العقود القادمة؟

روان: مبدئيًّا، لقد انتهت الصحافة الورقيّة في العالم العربيّ، أمّا الإعلام الحكوميّ فيبدو أنّ أحدًا لن يُقْنِعَ الحكومات العربيّة أن لا أحد يشاهد أو يستمع لبرامجها ومنصّاتها الإعلاميّة، وحتّى لو تبقّى عشر مشاهدين، سيستمرّ الإعلام الحكوميّ بافتتاح حتّى المزيد من المنصّات الإعلاميّة. هنا ثمّة ضرورة لأن يثبت الإعلام المستقلّ نفسه أكثر وأكثر وأن يرفع مستوى المحتوى المقدّم. الإعلام في شكله العامّ سيستمرّ في التغيّر، الواقع الآن أنّ المحتوى الإعلاميّ أكثر مشاهدةً عبر منصّات التواصل الاجتماعيّ، لكنّ أحدًا لا يعرف ما الّذي سيحدث بعد 15 عامًا من الآن. هل ستزداد هيمنة منصّات التواصل الاجتماعيّ؟ ذلك ممكن، ولهذا السبب تّتجه الكثير من المؤسّسات الإعلاميّة لتثبيت حضورها في كلّ منصّة متوفّرة، مثل «النيويورك تايمز» في «تيك توك»، لأنّ الجميع يريد أن يكون حاضرًا وأن يكون له نصيب من الكعكة، وعدم الحضور يعني المخاطرة بخسارة الجمهور، فعلى الجميع أن يكون في كلّ مكان.

 

فُسْحَة: ظهرت عديد المؤسّسات الإعلاميّة المستقلّة، أو البديلة، خلال العقدين المنصرمين، وكان ظهورها قد جاء بوصفه ردّ فعل على تقليديّة البنية المؤسّساتيّة للصحافة التقليديّة الأبويّة، لكنّ هذه المؤسّسات نفسها تواجه اليوم العديد من الانتقادات، منها أنّها أعادت إنتاج ذات الممارسات السلطويّة الرقابيّة الأبويّة، ما يناقض ادّعاءاتها عن نفسها بوصفها تقدّم نموذجًا بديلًا أكثر ديمقراطيّة من النموذج القديم، إضافة إلى أنّها، وبسبب التمويل الأجنبيّ، أصبحت تشكّل قنوات للهيمنة الغربيّة الفكريّة والثقافيّة، فكيف تقرأين هذه الانتقادات؟

روان: لا تنسَ أنّ الإعلام المستقلّ هو عبارة عن جمعيّات تشكّل جزءًا من المجتمع المدنيّ، وفي المجتمع المدنيّ ثمّة مؤسّسات سلطويّة وأخرى أكثر ديمقراطيّة. بالنسبة للتمويل الأجنبيّ، كان لديّ بعض التساؤلات عن سياسات التمويل عندما استلمت إدارة «أريج»، لكنّني اكتشفت أنّ تجربتي، حتّى الآن، مشابهة لتجربتي في «شبكة الجزيرة»، من ناحية أنّ أحدًا لا يتدخّل في عملي. لكن من المهم أن تكون مدركًا وذكيًّا في إدارة التمويل، من خلال أن لا تكون محتكرًا من قبل مموّل واحد، وأن لا يشكّل تمويل معيّن الجزء الأكبر من ميزانيّتك حتّى لا تكون تحت رحمة المموّل بشكل كامل، أي أنْ تنوّع مصادر التمويل، فإذا رفض أحدهم دعم مشروع متعلّق بفلسطين سيكون ثمّة آخر مستعدّ لمنح التمويل للقضيّة نفسها. لكن، أيضًا، مثلما يقول المثل: "امشِ عِدِلْ يحتار عدوّك فيك"؛ فإذا كنت فاسدًا ستخضع لسلطة المموّل، وإن كنت نظيفًا لن يتحكّم أحد بك.

 

 

فُسْحَة: تمكّن الفلسطينيّون لعقود طويلة من كسب التعاطف العربيّ من خلال توضيح ورواية سرديّتهم، لكنّ السنوات الأخيرة على ما يبدو شهدت تراجعًا على مستوى حضور الرواية الفلسطينيّة، على الأقلّ إعلاميًّا، فما أسباب هذا الغياب؟

روان: منذ بداية ظهور الفضائيّات العربيّة والرواية الفلسطينيّة حاضرة وبقوّة في الخطابات الإعلاميّة العربيّة، حتّى عام 2011 الّذي شهد تراجعًا في حضور السرديّة الفلسطينيّة بسبب الربيع العربيّ وتغيّر الأولويّات ما أضعف السرديّة الفلسطينيّة إعلاميًّا وأفسَحَ المجال لخطابات أخرى مثل خطابات التطبيع الثقافيّ والاجتماعيّ.

 

فُسْحَة: لكن ألم يرتكب الفلسطينيّون أخطاءً ساهمت في تراجع سرديّتهم الوطنيّة؟

روان: لكنّهم ارتكبوا الأخطاء ذاتها من قبل، لكنّ الحقيقة أنّ تغييب فلسطين عربيًّا هو جزء من خطّة ممنهجة مستمرّة منذ عقود، فمثلًا ثمّة تغييب تدريجيّ لفلسطين ولكلّ ما هو فلسطينيّ من مناهج التعليم العربيّة، ومن كتب اللغة العربيّة تحديدًا. كان ثمّة خطّة منهجيّة تزامنت مع العديد من الأحداث الّتي أدّت إلى إضعاف السرديّة الفلسطينيّة في وسائل الإعلام العربيّة، لكن، في المقابل، شهدنا صعودًا في مستويات التضامن الأوروبّيّ والأمريكيّ مع فلسطين بسبب وسائل التواصل الاجتماعيّ والإعلام الرقميّ البديل الناطق بلغات أخرى غير العربيّة، وقد كسبنا مربّعات ليست بالبسيطة. كثيرون يتضامنون الآن مع فلسطين لم يكونوا جزءًا من حركة تضامن تاريخيّة في الماضي، وكي لا نكون متشائمين، يجب أن نبني على المكاسب الأوروبّيّة والأمريكيّة، ونحاول استعادة ما خسرناه في العالم العربيّ.

 


 

أنس إبراهيم

 

 

 

كاتب وباحث ومترجم. حاصل على البكالوريوس في «العلوم السياسيّة»، والماجستير في «برنامج الدراسات الإسرائيليّة» من «جامعة بير زيت». ينشر مقالاته في عدّة منابر محلّيّة وعربيّة، في الأدب والسينما والسياسة.